فصل: (الْقَوْلُ فِي الْإِفْرَادِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْقَوْلُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ:

وَالْمُحْرِمُونَ إِمَّا مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ مُحْرِمٌ بِحَجٍّ فَرْدٍ، أَوْ جَامِعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَانِ ضَرْبَانِ: إِمَّا مُتَمَتِّعٌ، وَإِمَّا قَارِنٌ. فَيَنْبَغِي أَوَّلًا أَنْ نُجَرِّدَ أَصْنَافَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ الثَّلَاثَ ثُمَّ نَقُولُ مَا يَفْعَلُ الْمُحْرِمُ فِي كُلِّهَا، وَمَا يَخُصُّ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهَا إِنْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَخُصُّ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ فِيمَا يُعَدُّ الْإِحْرَامُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْقَوْلُ فِي شَرْحِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِفْرَادَ هُوَ مَا يَتَعَرَّى عَنْ صِفَاتِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ التَّمَتُّعِ، ثُمَّ نُرْدِفُ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ. الْقَوْلُ فِي التَّمَتُّعِ في الحج فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّسُكِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} هُوَ أَنْ يُهِلَّ الرَّجُلُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَسْكَنُهُ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ، ثُمَّ يَأْتِي حَتَّى يَصِلَ الْبَيْتَ فَيَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ يُحِلَّ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُنْشِئُ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بِعَيْنِهِ وَفِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ وَلَمْ يَحُجَّ، أَيْ عَلَيْهِ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عُمْرَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجَّ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكِّيِّ هَلْ يَقَعُ مِنْهُ التَّمَتُّعُ أَمْ لَا يَقَعُ؟
وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ لِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ، فَقَالَ مَالِكٌ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوَى، وَمَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ فَمَنْ دُونَهُمْ إِلَى مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ لَيْلَتَانِ وَهُوَ أَكْمَلُ الْمَوَاقِيتِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: مَنْ كَانَ سَاكِنَ الْحَرَمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَطْ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ التَّمَتُّعُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: اخْتِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُشَكُّ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا لَا يُشَكُّ أَنَّ مَنْ خَارَجَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ مِنْهُمْ. فَهَذَا هُوَ نَوْعُ التَّمَتُّعِ الْمَشْهُورُ - وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ: أَنَّهُ تَمَتُّعٌ بِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَسُقُوطُ السَّفَرِ عَنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى النُّسُكِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْحَجُّ -.
وَهُنَا نَوْعَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا:
أَحَدُهُمَا: فَسْخُ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ - وَهُوَ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ عَامَ حَجَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». وَأَمْرُهُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخَ إِهْلَالَهُ فِي الْعُمْرَةِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَسْخٌ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟
قَالَ: لَنَا خَاصَّةً»
. وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ صِحَّةً يُعَارَضُ بِهَا الْعَمَلُ الْمُتَقَدِّمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ». وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الْحَجِّ كَانَتْ لَنَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا كَانَ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَفْسَخُهُ فِي عُمْرَةٍ هَذَا كُلُّهُ مَعَ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وَالظَّاهِرِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ. فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلْ فِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّمَتُّعِ: فَهُوَ مَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ تَمَتُّعُ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا فَحَبَسَهُ عَدُوٌّ أَوْ أَمْرٌ تَعَذَّرَ بِهِ عَلَيْهِ الْحَجُّ حَتَّى تَذْهَبَ أَيَّامُ الْحَجِّ، فَيَأْتِي الْبَيْتَ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَيُحِلُّ ثُمَّ يَتَمَتَّعُ بِحَلِّهِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ يَحُجُّ وَيَهْدِيَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ يَكُونُ التَّمَتُّعُ الْمَشْهُورُ إِجْمَاعًا. وَشَذَّ طَاوُسٌ أَيْضًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا تَمَتَّعَ مِنْ بَلَدٍ غَيْرِ مَكَّةَ كَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَنْشَأَ عُمْرَةً فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ عَمِلَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي حَلَّ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ حَلَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، وَبِقَرِيبٍ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، إِلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ اشْتَرَطَ أَنْ يُوقِعَ طَوَافَهُ كُلَّهُ فِي شَوَّالٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ وَأَرْبَعَةً فِي شَوَّالٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ عَكْسَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا - أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ وَثَلَاثَةً فِي شَوَّالٍ -. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا دَخَلَ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَسَوَاءٌ طَافَ لَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِإِيقَاعِ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ أَمْ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ؟
ثُمَّ إِنْ كَانَ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ فَهَلْ بِإِيقَاعِهِ كُلِّهِ أَمْ أَكْثَرِهِ فَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولُ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلَّا بِإِيقَاعِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ بِالْإِحْرَامِ تَنْعَقِدُ الْعُمْرَةُ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الطَّوَافُ هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَمَتِّعًا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَعَ بَعْضَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَنْ أَوْقَعَهَا كُلَّهَا. وَشُرُوطُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ مَالِكٍ سِتَّةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يُنْشِئَ الْحَجَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَإِحْلَالِهِ مِنْهَا.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ وَطَنُهُ غَيْرَ مَكَّةَ. فَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ التَّمَتُّعِ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَشْهُورِ فِيهِ وَالِاتِّفَاقُ.
الْقَوْلُ فِي الْقَارِنِ وَأَمَّا الْقِرَانُ: فَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالنُّسُكَيْنِ مَعًا، أَوْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُرْدِفَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ القارن. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِيهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ شَوْطًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَطُفْ وَيَرْكَعْ، وَيُكْرَهْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ، وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ طَوَافٍ أَوْ سَعْيٍ، مَا خَلَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ إِلَّا الْحِلَاقُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَارِنٍ. وَالْقَارِنُ الَّذِي يَلْزَمُهُ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْقَارِنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ.

.[الْقَوْلُ فِي الْإِفْرَادِ]:

وَأَمَّا الْإِفْرَادُ فَهُوَ مَا تَعَرَّى مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا بَلْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَقَطْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيٌّ أَفْضَلُ هَلِ الْإِفْرَادُ أَوِ الْقِرَانُ أَوِ التَّمَتُّعُ؟
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، فَاخْتَارَ مَالِكٌ الْإِفْرَادَ، وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ». وَرَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ الْإِفْرَادُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى مُتَوَاتِرَةٍ صِحَاحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ. وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ». وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ. وَاعْتَمَدَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: أَهِلَّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حِجَّةٍ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَحَدِيثُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: «شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعُثْمَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحِجَّةٍ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحِجَّةً». وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا». وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيٌ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِرَانِ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَيَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ وَلَا يَكُونَ قَارِنًا. وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي». وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَشُكُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَاحْتَجَّ فِي اخْتِيَارِهِ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». وَاحْتَجَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِفْرَادَ الْأَفْضَلُ أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ رُخْصَةٌ وَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِمَا الدَّمُ. وَإِذْ قُلْنَا فِي وُجُوبِ هَذَا النُّسُكِ، وَعَلَى مَنْ يَجِبُ، وَمَا شُرُوطُ وُجُوبِهِ، وَمَتَى يَجِبُ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَجِبُ، وَمِنْ أَيِّ مَكَانٍ يَجِبُ، وَقُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ قُلْنَا أَيْضًا فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ فِي أَوَّلِ أَفْعَالِ الْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ.
الْقَوْلُ فِي الْإِحْرَامِ وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُحْرِمِ حَتَّى قَالَ ابْنُ نَوَّارٍ: إِنَّ هَذَا الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ مِنْهُ الْوُضُوءُ وَحُجَّةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: مُرْسَلُ مَالِكٍ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لْتُهِلَّ». وَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِأَمْرٍ لَا مَدْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَالِكٌ يَرَى هَذِهِ الِاغْتِسَالَاتِ الثَّلَاثَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُحْرِمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنْيَةٍ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ النِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرَةِ فِي الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَهُ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا. وَاخْتَلَفُوا فِي هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ فِي تَبْدِيلِهِ. وَأَوْجَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ وَبِالْإِهْلَالِ». وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ تَلْبِيَةَ الْمَرْأَةَ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ هُوَ أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا بِالْقَوْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْفَعُ الْمُحْرِمُ صَوْتَهُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ، إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا. وَاسْتَحَبَّ الْجُمْهُورُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الرِّفَاقِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَالِ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ. وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى التَّلْبِيَةَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَيَرَى عَلَى تَارِكِهَا دَمًا، وَكَانَ غَيْرُهُ يَرَاهَا مِنْ أَرْكَانِهِ. وَحُجَّةُ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً: أَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ لَفْظَهُ فِيهَا فَقَطْ. وَمَنْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ لَفْظِهِ فَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِي يَسْمَعُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا». وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ. وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمُحْرِمِ بِالتَّلْبِيَةِ بِأَثَرِ صَلَاةٍ يُصَلِّيهَا، فَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ بِأَثَرِ نَافِلَةٍ لِمَا رُوِيَ مِنْ مُرْسَلِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ». وَاخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُجَّتِهِ مِنْ أَقْطَارِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَحْرَمَ حِينَ أَطَلَّ عَلَى الْبَيْدَاءِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كُلٌّ حَدَّثَ لَا عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالٍ سَمِعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مُتَسَابِقِينَ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَيَكُونُ الْإِهْلَالُ إِثْرَ الصَّلَاةِ. وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِهْلَالُ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى لِيَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الْحَجِّ، وَعُمْدَتُهُمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ هُنَا أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدٌ يَفْعَلُهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْإِهْلَالُ «فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» يُرِيدُ حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الْحَجِّ. وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يُهِلُّوا إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ. وَلَا خِلَافَ عِنْدِهِمْ أَنَّ الْمَكِّيَّ لَا يُهِلُّ إِلَّا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ إِذَا كَانَ حَاجًّا، وَإِمَّا إِذَا كَانَ مُعْتَمِرًا فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ يُحْرِمَ مِنْهُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَمَا يَجْمَعُ الْحَاجُّ - أَعْنِي: لِأَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ وَهُوَ حِلٌّ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ الْمُعْتَمِرِ، وَاخْتَلَفُوا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِيهِ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُجْزِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَشْهَبَ.
وَأَمَّا مَتَى يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ التَّلْبِيَةَ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَتِ الْأَئِمَّةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ. وَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لِمَا ثَبَتَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ». إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَتَى يَقْطَعُهَا: فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا رَمَاهَا بِأَسْرِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ لَبَّى حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي آخِرِ حَصَاةٍ».
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَقْطَعُهَا فِي أَوَّلِ جَمْرَةٍ يُلْقِيهَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ فِي وَقْتِ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ أَقَاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ هُمَا الْمَشْهُورَانِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ قِطْعِ التَّلْبِيَةِ بِالْعُمْرَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ. وَسَلَفُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: ابْنُ عُمَرَ وَعُرْوَةُ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ التَّلْبِيَةَ مَعْنَاهَا إِجَابَةٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَلَا تَنْقَطِعُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِفِعْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَا قُلْنَا مُتَّفِقُونَ عَلَى إِدْخَالِ الْمُحْرِمِ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَخْتَلِفُونَ فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ، عَلَى الْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَدْخُلُ حَجٌّ عَلَى عُمْرَةٍ، وَلَا عُمْرَةٌ عَلَى حَجٍّ، كَمَا لَا تَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ. فَهَذِهِ هِيَ أَفْعَالُ الْمُحْرِمِ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ أَوَّلُ أَفْعَالِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ هَذَا فَهُوَ الطَّوَافُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ فَلْنَقُلْ فِي الطَّوَافِ:

.الْقَوْلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ:

وَالْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ، فِي صِفَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَحُكْمِهِ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ وَفِي أَعْدَادِهِ. الْقَوْلُ فِي الصِّفَةِ وَالْجُمْهُورُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ صِفَةَ كُلِّ طَوَافٍ وَاجِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عند الطواف، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُقَبِّلَهُ قَبَّلَهُ أَوْ يَلْمِسَهُ بِيَدِهِ وَيُقَبِّلَهَا إِنْ أَمْكَنَهُ الحجر الأسود، ثُمَّ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ، وَيَمْضِيَ عَلَى يَمِينِهِ، فَيَطُوفَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، يَرْمُلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ، ثُمَّ يَمْشِيَ فِي الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ دُونَ الْمُتَمَتِّعِ، وَأَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ - وَهُوَ الَّذِي عَلَى قُطْرِ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ - لِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الرَّمَلِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ لِلْقَادِمِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ سُنَّةً أَوْجَبَ فِي تَرْكِهِ الدَّمَ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سُنَّةً لَمْ يُوجِبْ فِي تَرْكِهِ شَيْئًا. وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ الرَّمَلَ سُنَّةً بِحَدِيثِ ابْنِ الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَافَ بِالْبَيْتِ رَمَلَ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قَالَ: قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَمَا كَذَبُوا؟
قَالَ: صَدَقُوا، رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَكَذَبُوا، لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالُوا: إِنَّ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ هُزَالًا وَقَعَدُوا عَلَى قُعَيْقِعَانَ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «ارْمُلُوا أَرَوهُمْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّةً»، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمُلُ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْيَمَانِيِّ، فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ مَشَى. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَشَى أَرْبَعًا». وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ. قَالُوا: وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى أَبِي الطُّفَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ». وَذَلِكَ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَعَلَى أُصُولِ الظَّاهِرِيَّةِ يَجِبُ الرَّمَلُ لِقَوْلِهِ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَوْ قَوْلُ بَعْضِهِمُ الْآنَ فِيمَا أَظُنُّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا - وَهُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ - لِأَنَّهُمْ قَدْ رَمَلُوا فِي حِينِ دُخُولِهِمْ حِينَ طَافُوا لِلْقُدُومِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَجُّوا رَمَلٌ أَمْ لَا؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ طَوَافٍ قَبْلَ عَرَفَةَ مِمَّا يُوصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّعْيِ فَإِنَّهُ يُرْمَلُ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَرَى عَلَيْهِمْ رَمَلًا إِذَا طَافُوا بِالْبَيْتِ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الرَّمَلُ كَانَ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ؟
وَهَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْمُسَافِرِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ رَمَلَ وَارِدًا عَلَى مَكَّةَ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُسْتَلَمُ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ فَقَطْ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْتَلِمُ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ فَقَطْ». وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى اسْتِلَامَ جَمِيعِهَا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كُنَّا نَرَى إِذَا طُفْنَا أَنْ نَسْتَلِمَ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا يُحِبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَيْنِ إِلَّا فِي الْوِتْرِ مِنَ الْأَشْوَاطِ». وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ خَاصَّةً مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ إِنْ قَدَرَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهِ قَبَّلَ يَدَهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حِينَ بَلَغَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ: «إِنَّمَا أَنْتَ حَجَرٌ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ، ثُمَّ قَبَّلَهُ». وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الطَّوَافِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا الطَّائِفُ عِنْدَ انْقِضَاءِ كُلِّ أُسْبُوعٍ إِنْ طَافَ أَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ. وَأَجَازَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَسَابِيعِ وَأَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِرُكُوعٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ الْأَسَابِيعِ، ثُمَّ تَرْكَعُ سِتَّ رَكَعَاتٍ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ». وَحُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الْجَمْعَ أَنَّهُ قَالَ: الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ رَكْعَتَانِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ، وَالطَّوَافُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْلُومٌ، وَلَا الرَّكْعَتَانِ الْمَسْنُونَتَانِ بَعْدَهُ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِأَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ مَنْ يَرَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ الْأَسَابِيعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ، وَمَنْ طَافَ أَسَابِيعَ غَيْرَ وِتْرٍ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ وِتْرٍ مِنْ طَوَافِهِ.

.الْقَوْلُ فِي شُرُوطِهِ:

وَأَمَّا شُرُوطُهُ: فَإِنَّ مِنْهَا حَدُّ مَوْضِعِهِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ مِنَ الْبَيْتِ، وَأَنَّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ لَزِمَهُ إِدْخَالُ الْحَجَرِ فِيهِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ سُنَّةٌ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا حَدَثَانِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَلَصَيَّرْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ». فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهَا سَبْعَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، ضَاقَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ وَالْخَشَبُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ثُمَّ يَقُولُ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ. وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الْآيَةِ.
وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِهِ الطواف: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: إِجَازَةُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمَنْعُهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَجَمَاعَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهِيَتُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمَنْعُهُ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِبَاحَةُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَأُصُولُ أَدِلَّتِهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ أَوْ إِبَاحَتِهَا. أَمَّا وَقْتُ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ فَالْآثَّارُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى مَنْعِ الصَّلَاةِ فِيهَا. وَالطَّوَافُ هَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّلَاةِ؟
فِي ذَلِكَ الْخِلَافِ. وَمِمَّا احْتَجَّتْ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنْ وَلِيتُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ شَيْئًا فَلَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ أَيَّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِسَنَدِهِ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الطَّوَافِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ حكمه مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ الطَّهَارَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِئُ طَوَافٌ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا طَافَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ إِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ يُعْلَمُ. وَالشَّافِعِيُّ يَشْتَرِطُ طَهَارَةَ ثَوْبِ الطَّائِفِ كَاشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِلْمُصَلِّي. وَعُمْدَةُ مَنْ شَرَطَ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَائِضِ - وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ يَحْتَجُّونَ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَلَا يُنْطَقُ إِلَّا بِخَيْرٍ». وَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ مِنْ شَرْطِهَا الطُّهْرُ مِنَ الْحَدَثِ، أَصْلُهُ الصَّوْمُ.
الْقَوْلُ فِي أَعْدَادِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَمَّا أَعْدَادُهُ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
طَوَافُ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ.
وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَطَوَافُ الْوَدَاعِ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا الَّذِي يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ دَمٌ. وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَلَى مَكَّةَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذَا نَسِيَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لِكَوْنِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ طَوَافٌ وَاحِدٌ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يُجْزِئُ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، لِأَنَّهُ طَوَافٌ بِالْبَيْتِ مَعْمُولٌ فِي وَقْتِ طَوَافِ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْقُدُومِ الَّذِي هُوَ قَبْلَ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَأَجْمَعُوا فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالْوَدَاعِ مِنْ سُنَّةِ الْحَاجِّ، لَا لِخَائِفٍ فَوَاتَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَاسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ عَرَضَ لَهُ هَذَا أَنْ يَرْمُلَ فِي الْأَشْوَاطِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، عَلَى سُنَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ مِنَ الرَّمَلِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ إِلَّا طَوَافُ الْقُدُومِ. وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ: طَوَافًا لِلْعُمْرَةِ لِحِلِّهِ مِنْهَا، وَطَوَافًا لِلْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَشْهُورِ.
وَأَمَّا الْمُفْرِدُ لِلْحَجِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا طَوَافٌ وَاحِدٌ - كَمَا قُلْنَا - يَوْمَ النَّحْرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَارِنِ: فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُجْزِئُ الْقَارِنَ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ، وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَى الْقَارِنِ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ، وَرَوَوْا هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ مِنْ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا انْفَرَدَ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَا. فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْفِعْلِ وَصِفَتِهِ وَشُرُوطِهِ وَعَدَدِهِ وَوَقْتِهِ، وَالَّذِي يَتْلُو هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ - أَعْنِي: طَوَافَ الْقُدُومِ - هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الثَّالِثُ لِلْإِحْرَامِ، فَلْنَقُلْ فِيهِ.

.الْقَوْلُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

وَالْقَوْلُ فِي السَّعْيِ: فِي حُكْمِهِ، وَفِي صِفَتِهِ، وَفِي شُرُوطِهِ، وَفِي تَرْتِيبِهِ:

.الْقَوْلُ فِي حُكْمِهِ:

أَمَّا حُكْمُهُ: فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ سُنَّةٌ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ وَلَمْ يَسْعَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ تَطَوُّعٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ. فَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَهُ: مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْعَى وَيَقُولُ: اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ». رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أَفْعَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ الدَّلِيلُ مِنْ سَمَاعٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ. وَعُمْدَةُ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يَطُوفَ - وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ -، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} مَعْنَاهُ: أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ ابْنِ الْمُؤَمِّلِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ تَحَرَّجُوا أَنْ يَسْعَوْا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى مَا كَانُوا يَسْعَوْنَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْضِعُ ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْعَوْنَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِبَعْضِ الْأَصْنَامِ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُبِيحَةً لَهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا صِفَةُ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ - أَعْنِي: وَصْلَ السَّعْيِ بِالطَّوَافِ.

.الْقَوْلُ فِي صِفَتِهِ:

وَأَمَّا صِفَتُهُ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مِنْ سَنَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ صفته أَنْ يَنْحَدِرَ الرَّاقِي عَلَى الصَّفَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ، فَيَمْشِي عَلَى جِبِلَّتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ بَطْنَ الْمَسِيلِ فَيَرْمُلُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَهُ إِلَى مَا يَلِي الْمَرْوَةَ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ وَجَاوَزَهُ مَشَى عَلَى سَجِيَّتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَرْقَى عَلَيْهَا حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ الْبَيْتُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَيْهَا نَحْوًا مِمَّا قَالَهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الصَّفَا، وَإِنْ وَقَفَ أَسْفَلَ الْمَرْوَةِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ عَنِ الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي عَلَى سَجِيَّتِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى بَطْنِ الْمَسِيلِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ رَمَلَ حَتَّى يَقْطَعَهُ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَلِي الصَّفَا، يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَبْدَأُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةَ، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا أُلْغِيَ ذَلِكَ الشَّوْطُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ: نَبْدَأُ بِالصَّفَا». يُرِيدُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}. وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ جَهِلَ فَبَدَأَ بِالْمَرْوَةَ أَجْزَأَ عَنْهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ السَّعْيِ قَوْلٌ مَحْدُودٌ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ دُعَاءٍ. وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمَلِكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ».